‫الرئيسية‬ الصحة والجمال أسرة ومجتمع الحاجة مَنَارحسن-رائحة النعناع والمقالب اللذيذة
أسرة ومجتمع - فن وثقافة - 21 أكتوبر، 2020

الحاجة مَنَارحسن-رائحة النعناع والمقالب اللذيذة

بورتريهات قلندول.. (ديون محبة سيدة مصرية صنعت عائلة محترمة إحداهن طلبت منها "لاكتين" فأرشدتها إلى عم رفعت ماسح الأحذية!

الحاجة مَنَارحسن

الحاجة مَنَارحسن-رائحة النعناع والمقالب اللذيذة بورتريهات قلندول.. (ديون محبة إلى هؤلاء البسطاء الذين قلّ ما يذكرهم أحد، ولا يعرفهم الكثيرون من أحبائنا أبناء الجيل الحالي إلا سماعًا عبر حكايات خاطفة أوهوامش حكايات)..

 

حين تسمع أحد المُحْدَثين يطنطن بالقول؛ إن ما يتداولونه الآن هو وليد زمانهم، فاعلم أنهم لا يعرفون تاريخ بلادهم، ولا أقصد التاريخ الرسمي المثبت في كتب فقط، بل أيضًا ذلك التاريخ الشفاهي الذي تناقله كل من الأمهات والآباء عن الأجداد، وقد يكون لبعضهم العذر، نظرًا لحداثة السن، أو- ربما أنه لم يجد الجدّات الحكاءات، معظم جدات وأمهات هذه الأيام مشغولات بحسابها على فيسبوك أو تويتر، وبرامج طبق اليوم؛ هذا إن كانت تطبخ أصلاً ولا تستسهل الديليفري، ولا وقت لديهن للحكي عن مآثر جداتهن.
لعلك مثلي سمعت ما يردده البعض الآن من مسميات من عينة “سترونج اندبندنت وومن” وينطقونها هكذا بالإنجليزية؛ أي المرأة القوية المعتمدة على ذاتها، ويظن بعضهم أنه مصطلح جديد أو اتجاه اصطنعته المرأة، أو اصْطُنِعَ لأجلها في هذه الأيام فقط، منذ القدم والمرأة المصرية في ربوع مصر؛ سواء الصعيد أوأرياف ومدن الوجه البحري، وهي هكذا “سترونج اندبندنت وومن” قبل قرون من ظهور هؤلاء المحدثين، ومن هنا جاء وصف بعض هؤلاء السيدات بـ “امرأة تساوي 100 رجل” هذا ماكان حين كانت الرجولة موقف أخلاقي وحياتي، وليس لمجرد ذكر النوع “ذكر” في البطاقة الشخصية.

الحاجة مَنَارحسن-رائحة النعناع والمقالب اللذيذة لعلك مثلي- والخطاب هنا لمن تجاوزوا الخمسين من أعمارهم- تفتح وعيك على الجدة التي تقضي لك كل شيء وتلبي مطالبك وأنت طفل، ثم أن- وهذا هو الأهم- إنها دولة الحماية الأولى لنا؛ نفرّ إليها لاجئين ولا جواز سفر لدينا سوى المحبة،مستنجدين حين نخطئ في شيء ونكون مهددين بالضرب من الأب أوالأم، وما أن يكمش الواحد منا في صدرها وتفرد هي ذراعها إلى الأمام في وجه المعتدين يتراجع الواحد منهم توًّا، وهي حضن الأمان العظيم، شالها مشحون بدفء من صدرها لا يعادله دفء العالم كله! ومن النساء الغريبات عن العائلة هناك كثيرات ممن كن يحامين عنا لو اعتدى علينا طفل أكبر منا، أويعطفن علينا بقطع الحلوى.

ثلاث نساء من هذه النماذج العظيمة التي تفتح وعيي عليهن، ومازلن يسكنَّ الروح، أولهن، الجدة حكمة جرجس وكانت مشهورة بين الرجال باسم “عبدالحكيم” وهذه وحدها رواية متعددة الأجزاء، اما الثانية فهي الحاجة نجفة حنس صاحبة دكان البقالة، والثالثة هي الحاجة منار حسن.

أن تسمح الحاجة منار لأبيك أن يُجْلسك وأنت طفل على “البنك” وهو المَصَد الذي يفصل باب الدكان عن داخله، فأنت بكل تأكيد ضمن قلة من المحظوظين، بل أن أباك ذا حظوة لدى الحاجة منار، ويتأكد هذا أكثر حين تمنحك هذه السيدة العظيمة قطعة ملبن أوطوفي “وهو بونبون الغلابة في الأرياف” أو قطع أرواح النعناع.

الحاجة مَنَارحسن-رائحة النعناع والمقالب اللذيذة وحين كبرنا شيئًا فشيئًا، لم تتوقف عن منحنا هداياها الجميلة، حتى حين ضربتنا سنوات المراهقة الأولى بالتدخين، ونذهب على استحياء لشراء السجائر منها كاذبين ندعي أنها للوالد، كانت تكشفنا من أول وهلة وتقول في غضب ممزوج بابتسامة من كشف أكاذيبنا وحِيَلنا: “أبوك أصلا بيشرب بلمونت مش كليوباترا ولا معدن كوتاريللي، وبعدين هو أبوك بياخد سيجارتين وتلاتة يا واد بايظ يا ابن الـ.. وللا بلاش أبوك وأمك ناس طيبين، خد روح النعناع دي أفيد لك”.. نجري من أمامها مسرعين والرعب يتملكنا، لربما أبلغت آباءنا، وكانت بالفعل تبلغهم ولكنها تقول للواحد منهم: العيال طايشة وخد العيِّل منهم بالهداوة، وبلاش تضربه سايقة عليك النبي وستنا مريم”..

ربما لايزال كثيرون ممن تجاوزوا الخمسين عامًا يتذكرون طلعتها الجميلة الوقورة، مبتسمة دومًا، وكنا كصغار حين نجد الدكان مغلقًا نحزن، لكننا لم نكن نستسلم أبدًا، فليس مسموح لنا أن نعود للأب او الأم ونقول لهم: الحاجة قافلة الدكان، لذا كنا نتجه إلى بيتها نصطحبها من البيت إلى الدكان، طوال المائة متر التي نمشيها معها، كنا نتنسم رائحة النعناع والصابون ماركة الوجه الفاخر الذي لا يشتريه سوى الموظفين والميسورين من أهالي البلد”ج11″ فيها، وهي ذات الرائحة التي كانت تتضوع من داخل دكانها، وربما كان دكانها الوحيد من بين دكاكين قلندول هو الذي نستمتع فيه بتلك الرائحة.

الحاجة مَنَارحسن-رائحة النعناع والمقالب اللذيذة الحاجة منار حسن سليم، على ما أذكر أنني لم أجدها متلبسة يومًا ما بالغضب، إلا في حالات قليلة؛ أهمها حين كانت تتعب كثيرًا في إيقاظ ابنها المرحوم ماهر عبد الحكيم قبل زواجه، كي يساعدها ويقف قليلاً في الدكان حتى تنتهي من “لقمة الغدا” هكذا كانت تسمي وجبة الغذاء، أو يذهب معها إلى ملوي لشراء البضاعة بالجملة أو إحضار أجولة سكر وكراتين زيت التموين على عربة كارو، غالبًا ما كان العربة الكارو الوحيدة التي يمتلكها عم صلاح العربجي، وفيما بعد اشترى زوج ابنتها “سيد أبو قنديل”عربة كارو، وكان يذهب معها أول كل شهر لصرف حصة التموين التي تخصها.

كانت لا تكف عن المزاح مع سيدات وبنات البلد اللواتي يأتين ويسألنها عن “علبة بودرة”، خاصة بعد العام 1975 وأنتشار إعلانات مستحضرات التجميل في قناتي التليفزيون الأبيض واسود الوحيدتين، حتى أن إحداهن قالت لها ذات مرة: عايزة “لاكتين” وحياتك يا حاجة من بتاع التليفزيون” وتقصد طبعا كريم الشعر “لاكتويل” الذي كان إعلانه مكررا ويختتم بجملة ” لاكتويل.. آي لايك إت” تضحك الحاجة منار كثيرًا، وهي تقول الله يرحم امك يا بت فلانة، ولا تتركها تفلت منها، بل تضللها وتوقعها في شر أعمالها، إذ تبدو في دور الناصحة لها وهي تقول: اللاكتين بتاعك يا بنتي ده مش بييجي عندي خالص، ده تلاقيه عند عمك رفعت، وتشير لها إلى بيت عم رفعت الذي كان يلمع الأحذية طوال السنة، ويقوم بدور المسحراتي في شهر رمضان.

وبجهد سنوات منذ أن ترملت الحاجة منار بوفاة زوجها، وهي لا تكف عن العمل، كي تكفي بيتها وأولادها، وحتى بعد أن تزوج ابنها وابنتها وأنجبا لها أحفادًا كثيرين، لم تتوقف وكانت تقف في الدكان مع محمد وهو الابن البكري آنذاك لولدها الوحيد ماهر، أو نادي أو قاعود، وغيرهم من الأحفاد البررة. سيدة أعمال بكل معني الكلمة، منذ البدء لم تعتمد سوى على ذراعيها، وحلاوة لسانها مع الناس وعطاءاتها الكثير، لذا لم يكن غريبًا أن يحبها الكثيرون، وتنمو هذه المحبة وتثمر وتمتد في أحفادها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
# بورتريهات قلندول.. كتاب لـ: يوسف وهيب.. يصدر قريبًا

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

ماتريوشكا قارورة المحيميد

.. “هكذا علمتني أمي منذ الطفولة؛ أن أحترس من الغرباء، أن أنكفئ إلى داخلي، أن أختزن ع…