مقاومة حدّة الواقع بالإيهام في مرايا عادل بشرى اللانهائية

أن تحكي يعني أن تقول ماتقول دون هدف محدد،لا لشيء سوى تسلية وإزجاء الوقت، أوربما كهدف بعيد يتمثل في المكافأة التي يأتي بها تأمين السامعين أوانبهارهم.
لكن أن تكتب قصة كحالة فنية على غير نسق سابق باعتبارها تلك القطعة أوالنتفة من جسد من الواقع، لكنها مغايرةٌ له في آنٍ تبعًا للرسالة التي تحملها أوالشِفرة التي تفتح مدارات التفكير والخيال لدى المتلقي؛ لتنتج حالة أخرى تتوازى، أوتتقاطع مع الحالة المطروحة بالنص، فهذا هو الفن والإبداع.
والقاص القاص عادل بشرى يفاجئنا في أولى تجاربه القصصية “المرايا اللانهائية” الصادرة عن “دار الأدهم للنشر والتوزيع- القاهرة”؛ بنسج خاص للقصة القصيرة يعتمد في ظاهره لغة تعتمد تقنية المنولوج في غالبية القصص، وإن جاء الحكي بصيغة الديالوج طفيفًا على ألسنة الراحلين أوالشخوص الرئيسية في القصص، وهو ما تمثله حالتي الأب والأم. والمونولوج هنا باعتباره حديثًا ليس من الداخل أوموجهًا إليه وحسب، بل أن مفردات الخارج والمحيط وما يعتمل في الذات تتحدث من وإلى الجواني القابع في دواخل الإنسان لاستكناه جوهره، واستنطاق تلك المفردات لذاتها عبر تفاعلها معًا إن سلبًا اوإيجابًا، أومع محيط الحياة.
وهذه الخصيصة هي التي تمنح الكتابة صفة الديمومة الفنية، باستمرار تشاكلها مع ذات القارئ بحيث تصير أزمنة محددة ومعروفة مثل اليوم والشهر والسنة والأمس والغد، ماهي إلا لحظات تروح وتجيء داخل فضاءات الزمان النفسي المتداخلة والمتشابكة لحظاته في آنٍ، وهو ما يمنح الكتابة طزاجتها وصيرورتها الإبداعية، وليس كما تتجمد الكتابة لدى من يعتمدون ذهنيًا صورة الزمان الموروث، أوما يدعوه علماء الطبيعة بالزمن الكرونولوجي المتتابع الذي يسير في اتجاه مستقيم.
وفي أولى قصص المجموعة التي عنونها القاص بـ “زمان كان لينا بيت”؛ يبدو الكاتب هنا وكأنه يريد نسج مهاد أوَّلي، أوتأسيس لعالمه المزمع الدخول إليه عبر قصص المجموعة “تتغير الوجوه مثل مشاهد فيلم سينما قديم تدفق المشاعر الملتهبة يشعل حيز الشاشة بينما ينحني الزمن وينطوي ويرحل، ألم حزين يطول، وفرح سريع الزوال، أتنقل في أروقة ذاتي، أواجه أشباح القرارات المتخذة والفرص الضائعة، تتدلي الاختيارات مثل البندول، تتأرجح بين الشك واليقين..”.
وبالإبحار عبر قصص المجموعة يتبدى للقارئ تحقق بعض مفردات هذا العالم المحكي فيه أو المحكي عنه، وتقوم مفردات اللغة المنتقاة هنا بتجسيد الحالة، مثل جملة “أروقة ذاتي” ما تجتليه هذه الجملة هنا عبر تحققاتها في وتمثلاتها في أكثر من موضع بقصص المجموعة؛ أن الذات ليس كما يتبادر إلى الذهن أنها الأنا الفردانية، بل هي بالفعل هذه الأنا مضافًا إليها الآخرين في عراكهم ومحباتهم وتداخلاتهم وتشابكاتهم في دروب الحياة أوفيما يعتمل داخل النفس الإنسانية.
وعبر ما يخاله القارئ بداءةً من إغراق في توهمات الراوي/الكاتب حول الأنا والآخرين، سواء كانوا أحياءً كما الإخوة والأقارب وغيرهم، أوالراحلين.
غير أن القاص في أكثر من قصة يتمثل أويقترب من حالة مؤدي “ستاند أب” ولكنه هنا تراجيدي مأساوي، وليس كما هو شائع بيننا أنه ستاند أب كوميدي.
غير أنه اقترب أكثر من ستاند أب ساخر وليس كوميديًا في قصة “أحد الشعانين”.
ولعلي لا أغالي إن قلت أن هذا التصور يقودنا إلى خصيصة في كتابة كهذه وتتمثل في دأبه المستمر على إنتاج لغة خاصة تتمنطق بالخيال الباطني، أوتنبع ما بين الحكي وبين الإفضاء، وهو ما يمنح الحالة.
وعلى المستوى الأسلوبي يحاول الكاتب إيهامنا بمحاولات مستميتة أن نقنع بما يتبدى من توهمات للراوي حول ما كان ومن كانوا أوالذين رحلوا.
ويتضح هذا في بشكول متفاوتة في مقطوعات: الأرواح المسلوبة (1-5) وسينما ملوي بالاس (1-4) “والآن، يرى وجوه أبنائه وقد صارت غريبة، محفورة بخطوط الزمن والفراق.
تساءل: هل يحملون غيابه بثقل في قلوبهم؟ كل عناق مفقود، كل اعتذار لم يُعلن، كل وداع افتقد للدفء، كان له صدى يشبه لحنًا مؤرقًا، ظل عالقًا في أركان روحه دون مصالحة.”
وفي هذه العبارة من قصة “الأرواح المسلوبة3”: “كما اشتكي أبي غياب النظرة الأخيرة للأبناء كاشفًا عن الجوهر المتعالي للاتصال الإنساني.. بينما تكشفت في مرثيته الأخيرة الحب الاخوي المفقود، وعبثية العلاقات الممزقة. كان ابي يبحر عبر الحدود غير الملموسة بين الحياة والموت مرسلًا توسلاته همسًا في الرياح الكونية.. فقد كان عبء الذنب الأبوي يضغط عليه وهو عبء كوني يتطلب الحل”
وفي قصة “البحيرة الساكنة” يستمر المنولوج الحوار الداخلي بين الراوي ونفسه، في استمرار موازٍ لحالة الستاند أب التراجيدي بما يجسد خوف وقلق الراوي/الأب على الإبنة:“بمفاجأة سلبت أنفاسي من رئتي، اخترق شكل وحشي سطح الماء، وانغلق فكا فمه الفاغر بدقة مميتة. تمساح، قديم وبدائي، عيناه مثبتتان على صغيرتي بجوع أصابني بالقشعريرة.”
ونأتي إلى عمدة المجموعة أي القصة التي جاءت محملة ليس بالهموم الشخصية المجردة إلى درجة الإيهام؛ بل متشابكة مع ماهو اجتماعي وديني.
أتحدث هنا عن قصة “أحد الشعانين” وفي هذا النص الماتع، المنسوج بحرفية عالية ونعومة وسلاسة فكرية رغم حدة الموضوع وحساسيته؛ نرى البشر يصنعون قداسة الأشياء وبأفعالهم يتحرك مركز القداسة مما هو علوي مفارق إلى ما هو أرضي ملموس:
“صغارًا كنا نركض إلى الكنيسة صباح أحد الشعانين من كل عام. لم نكن نذهب من أجل الصلوات أوالترانيم، بل من أجل طقس الرش، من أجل البركة التي تحملها المياه، المعلقة في الهواء للحظة قبل أن تهبط على أيدينا الممدودة، على أطراف سعف النخيل الذي كنا نحمله بشغف وترقب.”
هذا ماكان منذ البدء، أو منذ طفولة الراوي في هذه القصة، كما تتواصل السماء بنباتات وأعشاب الأرض عبر الأمطار كظاهرة طبيعية فتخصبها وتحييها، هكذا تتواصل السماء التي يسكنها الآب بالأرواح التي على الأرض بقطرات ماء عبر وسيط هو الكاهن الذي صلى على هذه المياه في البرميل فمنحها حالة علوية مقدسة، تمنح أرواح متلقيها حالة طمأنينة وتواصل مع الآب السمائي.
وحين يحاول الإنسان تتبع سيرورة هذا الطقس يكتشف الطفل أو الصبي الراوي وأقرانه، أن المياه كانت في برميل وهي هي المياه التي في النهر أو يتحصلون عليها من الصنابير في بيوتهم، لكن ثمة ريبة في استقبالهم لرزاز المياه هذا الذي يتنزل عليهم من سعفة الكاهن بكل هذه الروحانية، وبين عادية استقبالهم واستعمالهم للمياه في أوقات حياتهم الأخرى:
“في البداية، كنا مرتابين في قداسة هذا الماء. كان يبدو غريبًا أن نقترب من البرميل، أن نغمس أوراق النخيل فيه بأنفسنا. كان يفتقر إلى الدراما التي كانت تأتي مع الطقس القديم، شعور الغموض الذي كان يأتينا من النظر إلى الأعلى وانتظار الماء وهو يهبط من فوق.”
هنا يأتي دور العلم بغوامض الأشياء والأمور، ليصير الخفي شبه معلن، والغامض واضحًا وضوح الشمس، وبالتالي لم تعد هناك حاجة للوسيط أوالكاهن الذي يمنح الشيء قداسة متوهمة
“أصبح البرميل الآن مركز الطقس. لم نعد نتجمع تحت النافذة ننتظر الكاهن في ترقُّبٍ. لم نعد نحتاجه بعد الآن. كان البرميل هناك، أسود وساكن، مملوءًا بالماء المقدس الذي ينتظرنا. أصبح سعف النخيل الذي نحمله ثقيلاً بالماء، تتساقط منه قطرات طويلة وبطيئة عندما نرفعه، وكأننا قد أمسكنا بشيء ملموس، شيء يمكننا حمله معنا.”
وعلى شاكلة المثل الشعبي المصري “إحنا دافنينه سوا” تتشكل أمام عيني وأذن الراوي وأقرانه صيرورة أخرى لهذا البرميل، ويكتسب قداسة من خلال ما يتم ترويجه عنه من معجزات وخوارق حدثت بسببه أو لمجرد لمسه
“وبدأت تنتشر أخبار المعجزات حول البرميل ومائه. فقال أحدهم إنه رأى طائرًا أبيض يرفرف كانعكاس، ربما، أو كظل على الماء، لكنه لم يكن كافيًا ليتبين أنه ملاك. وانتشرت القصة. فجاء آخر بقصة أخرى عن شيء عجيب رأى في الماء، شيئًا يتجاوز فهمه العادي لصورة لقديس تشبه تلك الصور المنحوتة في جدار الكنيسة.”
بقي القول أن قصة “أحد الشعانين” هي قماشة روائية بامتياز لو أصغى القاص إلى أصواتها المتباينة والخفية في القص، لاستطاع أن ينسج رواية لا تقل بأي حال من الأحوال في قوتها الفنية وعالميتها عن روايات مثل “المسيح يصلب من جديد” لليوناني الجميل نيكولاس كازنتاكيس، أو”الحرافيش” للأديب المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ.
القاص عادل بشرى