‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة الأسطى فهيم صموئيل-قادوم الخير
فن وثقافة - 21 أكتوبر، 2020

الأسطى فهيم صموئيل-قادوم الخير

إذا غضب يردد في سره: طوّل بالك يافهيم

الأسطى فهيم صموئيل

الأسطى فهيم صموئيل-قادوم الخير بورتريهات قلندول (ديون محبة إلى هؤلاء البسطاء الذين قلّ ما يذكرهم أحد، ولا يعرفهم الكثيرون من أحبائنا أبناء الجيل الحالي إلا سماعًا عبر حكايات خاطفة أوهوامش حكايات)..

 

ولا أكبر الأطباء في المدن، سعيد الحظ من كان يعطيه عم فهيم النجار موعدًا قريبًا، خاصة قبيل مواعيد الزرع أو في مواسم الحصاد، فهذا يريد تصليح فأسه وذاك يريد سَنّ شرشرته التي يحشُّ بها البرسيم أو يحصدُ بها القمح والفول، وهناك من يريد إصلاح وترميم “بدّالته” أو طنبورته التي يروي بها الأرض، وآخر يتفق معه على تفصيل “بدّالة” جديدة، ويكون يوم فرح حين يصطحبه عم فهيم إلى ملوي لشراء صاج البدالة، أما عمودها الفقري وهو عبارة عن سيخ من الحديد، قوي وطويل يصل إلى مترين، فكان يعهد بصنعه إلى عم عربي الحداد، ويفرح الفلاحون كثيرا حين ينادي عليهم ليساعدوه في رفع جذع شجرة السنط او الصفصاف التي تم قطعها منذ ايام، فوق التحميلة التي أجاد تمتينها للمنشار اليدوي الكبير تحت جسر طراد النيل، بحيث يقف أحد الرجال فوق التحميلة ويمسك برأس المنشار، وغالبا ما يكون هذا الرجل واحدًا من اثنين؛ إما ابنه الأكبر الأسطى ثروت، أوالأسطى أرنست ابنه الأوسط، وهو من يمسك المنشار الضخم من أسفله، وكلما توغّل المنشار في جذع الشجرة، يتزايد فرح الجميع، وبعد أن ينتهي من تقطيع الجذع إلى عروق مستطيلة، ينادي عم فهيم على الجميع: انزلوا بقى يا اولاد علشان ناكل لقمة ونشرب كوباية شاي، وفي العصاري يجلس أمام دكانه بشارع العهد الجديد المشهور بـ “درب الكنيسة” ويبدأ بالمنشار الصغير في تقطيع العروق إلى أجزاء صغيرة لا يزيد طولها عن 50 سنتيمتراً، وعرضها حوالي10سنتيمترات، ويبدأ أولى ضربات “قادومه” في القطع الخشبية فتتشكل بين يديه كمنحوتة في يد نحات متمرس، وتتخذ هيئتها الأخيرة في شكل ضلوع البدّالة أوالطمبورة.

الأسطى فهيم صموئيل-قادوم الخير يظل المعلم فهيم يعمل حتى يسمع جرس الكنيسة الإنجيلية لصلاة العشية، يتمتم في سره، وإن تصادف وكنا كأولاد صغار جالسين بجواره نتفرج على مايصنع، لا نسمع منه سوى جملة “ربنا يباركك يا أخ رؤوف يا بن مرشد بتفكرنا بمواعيد الرب” ورؤوف هذا كان شابًا حُرم من نعمة الكلام والسمع، لكنه كان يدرك المواقيت فهو أول من يذهب إلى الكنيسة ويسأل مجدي رشيد أو عادل نعيم وهما من أبناء أعمامه، بالإشارة طبعا كم الساعة فيجيبه بيديه أنها 7 وربع فيجري ناحية حبل الجرس الطويل المتدلي من المنارة في ركن من أركان الكنيسة، ويسحبه بفن، فتصدح دقات الجرس المميزة، وكثيرًا ما كنا نحاول تقليده لكننا كنا نفشل دومًا. يلملم عم فهيم أدواته المنشار والقادوم والشواكيش، ويدخل إلى بيته ليغتسل ويستبدل هدوم الشغل بجلبابه الكحلي، ويلف تلفيحته حول رقبته ويمضي في درب الكنيسة، يلقي تحية المساء “يسعد مساكم يا ام فلان أو يا ابو فلان” على الجالسين والجالسات أمام بيوتهم، كان من كبار المواظبين على الكنيسة الإنجيلية خاصة في عهدي القس بشري والقس ناجي فرنسيس، وكانوا ينادونه بالأخ فهيم، وهذا اللقب “الأخ” عادة ما يتنادي به المنتمون للكنيسة الإنجيلية، نحن الصغار آنذاك، لم نكن مهذبين بما يتفق وروحانية تلك اللحظات بالنسبة للكبار، كثيرًا ما كانت تنتابنا نوبات ضحك، لكننا نحاول كتمها، إلا أننا في غالب الأحوال لم نكن ننجح وتنفجر ضحكاتنا، ويكون نصيبنا الزجر أوالطرد، خاصة حين ينطق بعضهم آيات من الإنجيل في صلاته بلهجة أهل البلد البسيطة، وليس كما اعتدنا قراءتها نحن أبناء المدارس.

في اللحظات الأولى قبيل شروق الشمس، ما أن كنا نستيقظ، لا نرى في الشارع سوى عم فهيم جالسًا أمام “الوشرة” وهي قطعة كبيرة من جذع شجرة، دائرية الشكل، ارتفاعها حوالي 30 سنتيمتر يسند عليها الشرشرة التي يريد سَنّها، أوقطعة الخشب التي ينحتها كما يشاء، وكالعادة في أي مهنة يريد أصحاب الحاجات قضاء حاجاتهم مبكرًا كي يلحقوا العمل مبكرا في غيطانهم أوغيطان غيرهم بالأجر، كنا نسمع صياح أحدهم أو غضبه أن عم فهيم تسبب في تأخيره، فكان يمتص غضبه بابتسامته الطيبة وهو يوجه كلامه إلى نفسه قائلاً: “طوّل بالك يا فهيم.. طوّل بالك” ويتوجه بهذه الجملة للزبون الغاضب: يارب تشتغل نجار.. علشان تشوف التعب” ثم يبتسم ويقول له: “الصبر خير، وكله هايخلص بمشيئة ربنا”..

اقعد اشرب الشاي وها تبقى شرشرتك أوفأسك و”فوَّاستك” وهي فأس صغير لتقطيع عيدان القصب وهي أصغر كثيرًا عن الفأس الكبير الذي يعزقون أويقلبون به الأرض قبل بذر البذور، يشرب الزبون الشاي الذي صنعته له المرحومة أم ثروت، ويفرح ويأخذ عدته التي أصلحها له عم فهيم ويمضي.

الأسطى فهيم صموئيل-قادوم الخير ولأكثر من 80 سنة عاشها عم فهيم، ظل يعمل حتى آخر نفس، ويوزع محباته على الجميع؛ يرضي هذا ويأخذ بخاطر ذاك، ولم نسمع عن أحد يكره المعلم فهيم أبو صموئيل، وحتى يومنا هذا، يتحدث عنه معظم من عاملوه أو اقتربوا منه بكل خير وبكل ما يليق بطيبته ومحبته.
ـــــــــــــــــــــــــــ
# بورتريهات قلندول.. كتاب لـ: يوسف وهيب.. يصدر قريبًا

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

ماتريوشكا قارورة المحيميد

.. “هكذا علمتني أمي منذ الطفولة؛ أن أحترس من الغرباء، أن أنكفئ إلى داخلي، أن أختزن ع…